العدد ١٦ - غابة القراءة
كيف يمكن للإنسان أن يتناغم مع الطبيعة ويعيد تعريف احتياجاته من خلال تجارب عميقة ومباشرة.
في التجربة الثانية من رحلة المعسكر، تنتقل دينا إلى نزل «غابة القراءة»، لتبدأ تجربة تجمع بين البساطة والانسجام مع إيقاع الطبيعة، حيث تعيد اكتشاف معنى الوقت عبر تفاصيل الحياة الريفية الهادئة.
صوت الغابة
بقلم دينا هاشم
على قمة الجبل، كان هناك مبنى بسيط أشبه بالكوخ، تغطيه شبكات العنكبوت، يقع في منطقة نائية وهادئة.
ترددت في الدخول، حتى استقبلتني امرأة كبيرة في السن تُدعى «ميغومي سان». بابتسامتها الهادئة وملامحها الطيبة، شعرت بالاطمئنان؛ سأسكن في بيت طيني بسيط وسط الغابة، ينسجم مع الطبيعة المحيطة به بكل تفاصيلها.
أخذتني ميغومي بجولة في المكان، حيث تناثرت الأعمال الفنية التي تبدو كأنها جزء من الطبيعة نفسها. مع كل خطوة بين عشب الغابة، كنت أراقب الضفادع الملونة وهي تقفز هنا وهناك. تعجبت من نفسي؛ لم أمانع وجودها، بل شعرت بأنها تضيف للحياة هنا رونقًا خاصًا. هذه الكائنات، التي كنت أتقزز منها عادة، هي سر انتعاش الغابة. الانسجام هنا هو الحل، وهو ما يجعل هذا المكان ينبض بالحياة.
مائدة طعام تطيل العمر
في المساء، كانت ميغومي تحضر لنا العشاء من محاصيل الغابة الطازجة. وفي كل يوم، كان ينضم إلينا ضيف جديد ليشاركنا الوجبة. كنا نقضي الوقت في الحديث الممتع وتناول طعام يسر العين قبل أن يشبع المعدة.
لطالما كنا نقول إن الجلوس على مائدة الطعام يطيل العمر، وأعتقد أن هذا القول يتقاطع مع دراسة تشير إلى أن ثالث أهم عامل لطول عمر الإنسان هو قوة عضلة الفخذ! الرابط بينهما قد يبدو غريبًا، لكنه منطقي؛ فعضلة الفخذ تسهم في طول العمر لأنها تُستخدم في المشي لزيارة الجيران والتواصل مع الآخرين. وبالمثل، تطيل مائدة الطعام العمر لأنها تجمعنا مع من نشاركهم الأكل والوقت.
كيف يمكن لبيت طيني أن ينبض بالحياة؟
عدت إلى بيتي الطيني للنوم، ووجدت الغرفة باردة جدًا، خالية تمامًا من أي ضوء خارجي. استسلمت للنوم تحت ثلاث بطانيات، أبحث عن الدفء في هذا السكون العميق.
في الصباح، ومع دخول ضوء الشمس عبر القوارير الزجاجية المثبتة في الجدران الطينية، لاحظت أن المكان أصبح دافئًا. لم يكن ذلك بسبب شروق الشمس، فالضوء بالكاد يضيء الغرفة. بل لأن الطين، الذي كان بارداً البارحة لعدم تخزينه حرارة النهار، بدأ يمتص حرارة جسدي والهواء المحيط. كأن البيت ينبض بالحياة، يشعر بالدفء حين أكون هنا، ويشعر بالبرودة والوحدة في غيابي.
كانت أصوات قطرات المطر تنهمر بهدوء، تبعث الطمأنينة في روحي. ومع ذلك، كان صوت ارتطامها بالسقف أعلى مما اعتدت عليه في المدينة، لكنه بدا طبيعيًا هنا، وسط الطبيعة. شعرت بدفء خاص، وكأني جزء من نظام الغابة، أتفاعل مع ما حولي وما حولي يتفاعل معي.
كم مرّ من الأيام؟
بالكاد أصدق أنني في اليوم الثاني فقط. الوقت هنا يمضي ببطء لكنه ممتلئ بالأحداث والتجارب.
الهدوء يحيط بالمكان، فلا ضجيج يعكر الصفو، فقط أصوات الطبيعة تخلق أجواءً مريحة لم أعتدها في المدينة. أما الفطور، فكان بسيطًا، مشبعًا وصحيًا، متناغمًا مع إيقاع الحياة هنا، وكأن كل شيء يهمس لي بأن الحياة الحقيقية تكمن في هذا الانسجام.
اليوم الثالث
اليوم كان مميزًا، قضيناه في الغابة نفصل الحبوب عن الأوراق باستخدام آلة يدوية تعود إلى عصر الإيدو. لم يكن هناك كتيب تعليمات ولا فيديو على يوتيوب ليرشدنا، فكان التعلم يأتي من المحاولة والخطأ. نصحح أخطاءنا ونواصل العمل. ما أدهشني هو الكتابة اليابانية المحفورة على الآلة «最新機械» التي تعني «أحدث المكائن»، وكأنها لا تزال تحتفظ بفخرها بهذا الوصف رغم مرور مئة عام على تصنيعها.
كان بوتشي، القط الأسود، يحوم حولنا طوال الوقت، متطلعًا إلى لقمة طعام أو لمسة اهتمام. وأعتقد أنه نجح في نيل كلا الأمرين.
أغنية الوداع
مع غروب الشمس، قدمت لي ميغومي ورقة تحتوي على كلمات أغنية Imagine وطلبت مني أن أكتبها بالعربية. شرطت عليها أن نغنيها معًا، فكتبتها بحروف الكاتاكانا اليابانية. في المساء، جاء أحد الجيران وغنيناها معًا.
لم أدرك إلا بعد انتهاء الغناء أنها كانت الأغنية الأنسب لهذه الرحلة. الجملة الأخيرة منها كانت المفضلة لدي:
«تخيل جميع البشر يعيشون لأجل اليوم، واليوم فقط»
نهاية المعسكر
ومضت الأيام دون أن أشعر بحاجة إلى معرفة الساعة أو أن يداهمني شعور الاستعجال. كانت الطبيعة من حولي كافية لتحديد الوقت؛ رائحة الصباح، تغير الظلال مع حركة الشمس، وصوت صرارير الليل الذي يفسح المجال لزقزقة العصافير في الصباح.
علّمتني الطبيعة معنى الوقت الحقيقي، وقتٌ لا يُقاس بالساعات بل بالإحساس. كما علّمني العيش في بيت طيني أنني أرغب في مكان أعيش فيه بتفاعل متبادل، مكان يجعلني أستثمر وقتي بفعالية، حيث تزداد قيمة الوقت كلما ازداد قربنا من الطبيعة.
تمامًا كما يأخذ الطين شكله من خلال الرصّ والقصد والصقل، أشعر أن كل شغف أكتشفه، وكل تجربة أخوضها تضيف عمقًا جديدًا إلى تكويني كإنسان. ففي نهاية المطاف، أنا وأنت خُلقنا من طين.
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ»
سورة المؤمنون، الآية 12
فائدة نامان
«تصميم تجارب لا تُنسى»
عندما تصمم تجربة، لا تفكر فقط في وظيفتها أو مظهرها، بل فكر في المشاعر التي ستتركها في نفس المستخدم. هل سيشعر بالدهشة؟ بالراحة؟ بالسعادة؟ التجارب التي تُركز على المشاعر هي التي تُبنى عليها العلامات التجارية القوية.
«دينيس لي يون - ما الذي تفعله العلامات التجارية العظيمة»
نروي عبرها القصص التي تُحيط بكل مشروع في استوديو نامان، نشارك اللحظات التي ألهمتنا، والدروس التي تعلمناها. كل مشروع يحمل تجربة فريدة، نتعلم منها وننقلها عبر هذه النشرة لتكون مصدراً للإلهام والتفكر.