العدد ٧ - التنسك في جبال إياما

تجربة لعيش حياة الزهد بالطريقة اليابانية القديمة مع أحد العباد أو ما يسمونه «يامابوشي»

[إياما، اليابان ٢٠٢٣]
[إياما، اليابان ٢٠٢٣]

صوت التنسك

--:--

من المدينة إلى جبال إياما

ستعرف الجبل إذا عرفت المدينة، هذا كان حال سلسلة عمر يجرب اليابان، فكانت المشاريع التي عملنا عليها ترتحل ما بين الريف والمدينة، وذلك لكي نستوعب الاختلاف في الحياة والإنسان من خلال عوامل وبيئات مختلفة. في اليابان نجد أن الحضارة في المدينة هي بالأصل نتيجة لتفاصيل ثقافية عريقة، لذلك ستجد حتى وأنت في طوكيو التي وصلت إلى ذروة الحضارة بعض من مظاهر الثقافة اليابانية القديمة. وعندما تتعمق في أصول هذه الثقافة، تجد أن هناك عوامل روحانية ودينية قد شكلت جزء من الثقافة اليابانية. من هناك انطلقنا للتجربة بممارسات «يامابوشي» في جبال إياما، حيث اصطحبنا المعلم شِدا في أعماق الجبال، لنعيش تلك العَلاقة بين الطبيعة والإنسان من منظور الإيمان الياباني.

اللقاء الأول

بعد قضاء ٥ ساعات في التنقل حتى وصولنا إلى مدينة أياما، كان اللقاء الأول مع المتنسك شيدا في محطة القطار الذي حرص فيها على إستقبالنا. كانت كل الأدلة من الوهلة الأولى لا توحي إنه متنسك؛ فقد كان يرتدي بزة وبنطال وقبعة تخفي إحدى عينيه، ومع ابتسامة خافتة وهادئة رحب بنا. دخل مباشرة في صلب الموضوع وأخبرنا حينها أن إرسال الهاتف سينقطع هنا، فإذا أردنا الحديث مع الأهل كفرصة أخيرة قبل الإنقطاع لثلاثة أيام.
بعد أن اختلى كل واحد منا في زاوية يحدث أهله يطمئنهم،  انطلقنا منها لنزل بُني قبل ٢٠٠ سنة « ناناهوشي أن» دخلنا إلى الكوخ ونحن نتأمل كيف كانت الحياة تسير داخل زواياه. توجهنا لترتيب الأغراض في الكوخ على أن نعود لها بعد التنسك. أخبرنا حينها أن نجتمع في الصالة الرئيسية لوجبة العشاء الأخيرة، وجلسة التعاليم والنواميس.

العشاء الأخير

كانت الوجبة الفارهة الأخيرة لنا، لأنه مجرد ماسنبدأ طقوس التنسك سيكون هناك شكل غذاء معين يميل إلى التقشف والقناعة طيلة أيام التجربة. عشاء الليلة الفاره كان سمكًا، والكثير من الألياف وشراب شاي الشعير البارد. تحدثنا خلال العشاء وبدأنا بكسر الحواجز، حيث بادر المعلم بذلك لمعرفته أن الأيام القادمة سيكون فيها العديد من الأحداث التي يتطلب أن يكون فيها الفريق متوائمًا. بعد العشاء بدأ شِدا بجلسة إجتماع لسرد نواميس التنسك.

نواميس التنسك

  1. الصمت طيلة أيام التنسك «٣ أيام».

  2. إبقاء الهواتف النقالة في النزل « ناناهوشي أن».

  3. إبقاء نفس الرداء طوال فترة التنسك.

  4. الإعتماد الكامل على الغذاء المقدم.

اختلاف العبادات

كانت هناك مناقشات حول كيف يؤدي الفريق فرائضه الخاصة مع خوض تجربة التنسك. وبحكم أن موضوع الطقوس والممارسات هو موضوع حساس لدى الجميع بسبب اختلاف الأديان، وجب التواصل بشكل فعال حتى نضمن عدم التعدي واحترام الآخر. بادر الفريق بتوضيح الممارسات التي يرغب بها حتى لا تناقض إيمانيةً ومنها الفروض اليومية من العبادات. احترم المعلم ذلك كثيرًا، وكان يساعد الفريق دومًا بتحديد اتجاه القبلة للصلاة ما بين الجبال.

التنسك

وضعنا جميع الأغراض و الممتلكات في نزل « ناناهوشي أن»، لنبدأ منها تجربة «التنسك» نقضي أغلب الوقت بالمسير بين الجبال والأحجار والأشجار، يتوقف المعلم كل مرة عند أحدها ويتأمل في مظهرها. ومن ثم يزمر بالبوق الصدفي في إشارة لإكمال المسير. لم تكن توقفاته عشوائية، بل أن لديهم إيمان ببعض العناصر الطبيعية الموجودة، صخرة أو شجرة معينة، نهر ما. الأشجار العملاقة محاطة بالمكان ولا صوت تسمعة إلا صوت الجرس والبوق الذي يزمر منه المعلم. نتسلق الجبال طوال الصباح لنقف في النهار للاستراحة والغذاء.

المسير لم يكن مقتصراً على أوقات ضوء الشمس فقط، بل حتى بالليل فوجئنا أثناء إستراحة العصر بدون سابق إنذار، أنه بدء يزمر بالبوق الصدفي، لنهرع في مسير الظلام دون أي إضاءة عدا ضوء القمر. نسير خلف صوت الجرس ولا نعرف إلى أين، نتوقف حينها عند بحيرة عملاقة، نتأمل خلالها ذلك الهدوء وشِدا يتمتم بتعوذاته قبل أن نعود إلى مسقط رأسنا.

الغذاء

أرز، حساء الميسو «الصويا المخمرة»، قطعة فجل مخمر، شاي الشعير.

هذا كان كل ما نأكله طيلة أيام التنسك الثلاث. وجبةً في الصباح ووجبة في المساء، وأثناء المسير كان لدينا إستراحة واحدة كنا نتقوى بها على الأونيجيري «كرات الارز» المحشوة والملفوفة بالأعشاب البحرية. يوصينا المعلم أن ننهي الطعام كله خلال ٣٠ ثانية، وذلك لأن جزء من تعاليم الغذاء أن يكون هدفه التقوي لليوم وليس التلذذ.

كان الفريق يشعر بالجوع، وخصوصاِ في أول اليوم.

«هل أنت جائع؟ أم أنك مُتَوهم؟»

مع انقضاء اليوم الأول وتحدياته بدأت الأجساد بالاعتياد، خرج منها تأمل كبير في أن الإنسان لا يحتاج ليأكل الكثير حتى يعمل بشكل جيد، بل عكس ذلك تمامًا! فمع التخفف تجد أن الجسم ذو نشاط وفاعلية أعلى. فحركتنا في الجبال ووقفات الراحة البسيطة مع الأكل القليل كلها جعلت أجسادنا في حالة كبيرة من الاتزان والثبات في الحالة الجسدية والنفسية طوال اليوم.

التوثيق الميداني

التحدي الكبير في تجربة التنسك كانت بيئة المكان الوعرة والتي ربما لا تكون سهلة لأغلب الناس حتى بدون أخذ الكاميرا! ولكي نحرص على أن عمر لا يخرج من طور التجربة وجب علينا التمركز الجيد دائمًا لرصد اللحظات دون التوجيه، الحركة السريعة بدون أصوات، لأن الكل الان في صمت؛ فكل حركة تفعلها يسمعها الجميع، فكيف تتحرك بسلاسة دون افتعال أصوات كثيرة؟ اللياقة وقوة التحمل كانتا من أهم المفاتيح التي تسهم في صيد اللحظات وحسن التمركز والحضور الذهني تساعدك كلها في إلتقاط تلك المشاهد.

ولأن التصوير سيستمر طوال اليوم وجب علينا الحفاظ على البطاريات أطول وقت ممكن حتى نعود في نهاية اليوم لشحنها. وزن المعدات كان أحد أهم الأشياء التي حرصنا عليها كي لا تكون ذو وزن عالي وتجعل الحمل أصعب مما هو عليه، فاختيار نوع الكاميرا والعدسات وكمية البطاريات وحجمها كلها من النقاط التي راجعناها كثيرًا قبل الاختيار.

تنقضي ثلاثة أيام محملة بتجربة ثقافية فريدة، بدأنا منها بالتعرف على حضارة اليابان من خلال طقوس الثقافة. مع اقتراب انتهاء تجربة التنسك، نشكر الله على هذه التأملات والدروس العملية والشخصية.

الصيانة

كل ما كنا نحلم فيه خلال تلك الأيام هو الينابيع الحارة التي تقف عليها جبال أياما، انطلقنا مسرعين نحوها لقضاء إستجمام طويل نتذكر فيه تعاليم تلك الجبال، ونتشارك فيها اللحظات الأخيرة مع المعلم شِدا قبل الرحيل والانتقال للتجربة التالية.

فائدة نامان

«تملك العمل»

على الرغم من أننا نَعمل داخل ضمن فريق، لماذا نصر بعض الأحيان على حمل وتملك العمل لوحدنا؟ مثال ذلك عندما تسأل أحدهم: هل جميع أمور العمل تسيرُ على مايرام؟ يكون الرد حينها غير واضح! ومثال آخر: إذا كان لديك ضغوطات، أستطيع معاونتك؟ يكون الرد حينها: لا، الأمور على مايرام.

أحلل هذا النوع من حمل المسؤولية فوق طاقتها والتملك على أمرين:
الأولى: هذا الشخص لديه ثقة في نفسه.
ثانياً: هذا الشخص لايريد أن يشعر بالرفض.

والمقصود بالأولى، هو أن؛ الشخص مقتنع تمامًا أنه يستطيع، وأن طريقته في العمل صحيحة بشكل تام، لذلك هو يظن أنه لايحتاج إلى أي نصيحة أو مشورة لتحسين طريقة عمله. وأما الثاني: ليس لديه ثقة في عمله، ويخاف أن يسمع ردة فعل سلبية اتجاه عمله من الآخرين.
أعتقد في كلتا الحالتين، هناك خطر قد يؤثر على جودة العمل والنتيجة. دائماً ما أخبر الموظفين لدي [لاتثق فيما تعمل، أن لايكون لديك ثقة في العمل، تكون النتيجة أفضل]، حمل العمل الزائد بشكل فردي هو ليس فقط شيئ غير محبذ، بل هو فعلاً عائق في العمل. والأحمر، وليس هذا هو معرفة الطبيعة نفسها؛ الأرض والسماء، الأخضر والأحمر.

فالفلكي وعالم النبات والفنان لم يفعلوا أكثر من استيعاب الانطباعات وتفسيرها، كل منهم في قبو عقله الخاص. وكلما انخرطوا أكثر في نشاط العقل، كلما زاد انخراطهم في نشاط الفكر، كلما انفصلوا عن أنفسهم وأصبح من الصعب عليهم أن يعيشوا بشكل طبيعي. فكلما عجزوا عن معرفة الطبيعة كلها، لم يكن في وسعهم أن يفعلوا أكثر من بناء نموذج ناقص لها ثم يوهمون أنفسهم بأنهم قد خلقوا شيئًا طبيعيًا. كل ما يجب على المرء أن يفعله ليعرف الطبيعة هو أن يدرك أنه لا يعرف شيئًا في الحقيقة، وأنه غير قادر على معرفة أي شيء.... وبهذا سيأتي الوقت الذي سيفهم فيه.

ماسانوبو فوكوكا -أهم كتاب في الترتيب والتنسيق للعمل، لكن لا أحد يخبرك عنه

السفرمعسكرالترحالالسودةنيومالرياض
نشرة سنين نامان
نشرة سنين نامان

نروي عبرها القصص التي تُحيط بكل مشروع في استوديو نامان، نشارك اللحظات التي ألهمتنا، والدروس التي تعلمناها. كل مشروع يحمل تجربة فريدة، نتعلم منها وننقلها عبر هذه النشرة لتكون مصدراً للإلهام والتفكر.