العدد ١٨ - اكتشاف الحياة من خلال المائدة اليابانية

ماذا أصبحت جمعة الطعام تعني لنا اليوم؟

تبدأ مودة رحلتها في اليابان مع المعلمة هاماساكي لتعلم أساليب الطهي الياباني لمدة ثلاثة أسابيع، حيث تكتشف كيف يمكن للطعام أن يكون وسيلة للتواصل مع الثقافة والذات وتعيد اكتشاف معنى الحياة البسيطة من خلاله.

بقلممودة الحميد

لطالما كانت المائدة ملتقى العائلة التي افتقدتها منذ أن بدأنا حياتنا المهنية. أصبحنا نتناول وجبة عائلية واحدة في نهاية كل أسبوع، ولا يمر جمعة إلا ويغيب عنا واحد أو أكثر. حتى بدأنا نخطط لرحلات سفر حيث يصبح اللقاء حول المائدة وتذوق الطعام نشاطًا رئيسيًا.

تتميز عائلتي بحب أفرادها للطهي، وتُعد أمي الأطباق السعودية التقليدية مثل المرقوق والسليق والمخللات مثل المكدوس ومخلل الليمون، بينما يشتهر والدي بكبسات الحاشي وشوربة الكوارع. أخي عزيز يتسم بابتكار نكهات جديدة، فيمزج المكونات المحلية مع أطباق عالمية مثل البروستد بالقرصان أو زبدة باللومي الحساوي. أما محمد، فهو أستاذ اللحوم الطازجة ويُعد ألذ كبدة. نورة، أختي، تبرز في إعداد السالمون المشوي مع الثوم ولمستها الأخيرة بالعسل. كل فرد من أفراد العائلة يملك وصفة تميزه في مرحلة معينة.

أما بالنسبة لي، فكنت أشارك في الطهي وأعد وجباتي اليومية للعمل، صحية، لذيذة، وسهلة التحضير، مع بعض الوصفات التي أكررها لسنوات.

لذلك، اخترت بعناية أن تكون تجربتي الأولى في اليابان حول الغذاء والمائدة.

صوت المخبز

--:--

بداية الطريق

وصلت إلى محطة القطار في الجهة الشرقية من قرية إزونا عند الغروب. تحت زخات المطر الخريفية، كان السيد هاماساكي يلوّح لي للحاق به وركوب السيارة. في هذه القرية الريفية، يمكن تمييز العابرين بسهولة حيث لا يعيش فيها إلا أهلها. بكلمات مختصرة، حاول السيد هاماساكي كتابة اسمي على الضباب المتكثف على زجاج السيارة الأمامي وهو يقود، ويردد اسمي ليتذكره.

عند وصولي لمنزل عائلة هاماساكي، كان الاستقبال متواضعًا وكأن أفراد العائلة عادوا لتوهم من يوم عادي. اختلط في داخلي شعور بالاستغراب والألفة معًا. هل توقعاتنا تجاه الآخرين مرتبطة بما نعتاده؟

بعد قليل، جاءت السيدة هاماساكي التي كانت قد استيقظت لتوها من قيلولة إثر صداع تمر به، وأخذتني إلى المطبخ. تحدثنا قليلاً، ثم أشارت إلى الباذنجان في زاوية المطبخ وقالت إن لديها الكثير منه ولم تخطط للعشاء، فاقترحت عليها مشاركتها في إعداد المسقعة، وكانت أول عشاء في ليلتي الأولى.

قضاء الوقت وتنظيم الأنشطة:

  • العمل: تنظيم أيام العمل بين المخبز والمقهى وفقًا لجدول أعمال السيدة همساكي.

  • الاكتشاف: تنسيق يوم في الأسبوع لاكتشاف منطقة جديدة أو ممارسة مهارة جديدة.

  • المجتمع: التعرف على مجتمع القرية خلال ساعات الاستراحة.

  • التدوين: تدوين تأملات ووصفات اليوم بالصوت والصورة والكتابة اليدوية في نهاية اليوم.

  • الحركة: ممارسة تمارين استطالة قبل أو بعد العمل.

رغيف التعلم؛ تأملات من المخبز التعاوني

يتراوح استيقاظي بين الساعة السادسة والنصف والسابعة والنصف كل صباح. يوم الجمعة والثلاثاء مخصصان للخبز في المخبز، يسبقهما يوم تحضير العجينة، بينما يُخصص بقية أيام الأسبوع للمقهى، والأحد والاثنين هما أيام إجازة العائلة.

في الطريق إلى المخبز، كنت أتأمل الأشجار التي بدأت بتخفيف أوراقها استعدادًا للخريف. آثار المطر على الطريق تشبه جسد طفل استحم بعد يوم طويل؛ منعش، مبهج، وعفوي.

في المخبز، بصمت وحركات تلقائية، تقوم السيدة آي سان بإخراج العجينة من دواليب التدفئة، ثم تجهز الميزان والأوعية لتقسيم العجينة. ترى جداول أصناف المخبوزات معلقة بالقرب من سطح العمل. منذ اليوم الأول، كنت ألاحظ السيدة آي سان أثناء تحضيرها لأكثر من عشرة أصناف من المعجنات، وبدأت في محاكاتها ومراقبة عملها. تتميز شخصية السيدة آي سان بالهدوء والتركيز العالي، لذا كانت توجيهاتها لي قليلة، وأعمالها كثيرة جدًا.

أن تكون في رحلة تعلم حقيقية ضمن روتين معلمك، فهذا يختلف تمامًا عن أسلوب الدروس المعدة مسبقًا كما في المدارس. هنا، أنت في حالة تركيز وانتباه حقيقي.

مع الأيام، أصبحت أستوعب روتين العمل في المخبز: وزن العجينة، وجرش المكسرات، وتجهيز صواني الخبز، وفرد العجينة وتحضيرها لما قبل الخبز، ثم تنظيف الأواني وسطح العمل. وفي أيام إعداد العجينة، أقوم بوزن المكونات وتوزيعها في أوعية وحفظها في دواليب التدفئة للخبز في اليوم التالي. لم تكن هذه التفاصيل لتتشكل إلا من خلال الملاحظة وتدوين الأفكار خلال العمل. شعرت بيقظة الطفل في داخلي، ذلك الشغف للتعلم واكتساب المهارة بالمحاولة والخطأ. كان العمل اليدوي بمثابة استرخاء ذهني عميق، خاصة أن أعمالي السابقة كانت تتركز على العمل الذهني.

المقهى؛ ملتقى القرية

يقع مقهى عائلة هاماساكي على الشارع الرئيسي بجانب محطة القطار، حيث يمر الأصدقاء والزبائن المألوفون بشكل دوري. تصبح ساعات اللقاء بمثابة استضافة لعائلتك، حيث تُتبادل الأحاديث عن أحوالهم وأعمالهم الأخرى. ما لفت انتباهي هو الألفة والاهتمام الذي يظهر بين العائلة والزبائن.

تتبنى عائلة هاماساكي مبدأ الحياة الطبيعية والعضوية. فجميع مكونات المقهى تأتي من بستانهم الصغير بجانب المخبز، وكذلك محاصيل أصدقائهم. فكوني أتيت في الخريف، وجدت وفرة من المحاصيل مثل الباذنجان والعنب والتفاح والقرع، ما جعل قائمة الطعام تتغير حسب الموسم. هذا ما يميز ثقافة اليابان، حيث تتجدد المذاقات حسب المواسم.

غسيل الأطباق فضيلة

كان درسي الأول أن أضع جدول أعمال في المقهى بناء على ملاحظتي لاحتياجات اليوم، فكل يوم يختلف عن الآخر. تضحك السيدة آي سان متعجبة من متعتي في غسيل الأطباق، وفي تلك اللحظات أدخل حالة ذهنية صافية، وتتعمق تأملاتي. مع مرور الوقت، أصبح العمل متعبًا، لكن استمريت فيه بصمت.

الطعام لغة عابرة للثقافات

تعمقت علاقتي بالسيدة آي سان عندما بدأنا في مشاركة الوصفات المحلية لثقافتي العربية. قمنا معًا بتجربة إعداد اللبنة، والمصابيب، والمراصيع، والمكدوس، والمسقعة، وكريمة كراميل "قدرة قادر"، وبعض الابتكارات العفوية التي نشأت بالتجربة.

لم تكن الأيام العشرون الأولى إلا سلسلة من الملاحظات والتعلم بالنمذجة. الأخطاء التي كنت أخاف من ارتكابها أصبحت مدارس حقيقية للتعلم. اكتشفت تحديات تشغيل المقاهي التي لم يكن من السهل استيعابها كزبون.

العائلة؛ مائدة الحب نهاية يوم طويل

تتراوح ساعات العمل للعائلة من ٨ إلى ١٠ ساعات أو أكثر، ورغم التعب في نهاية اليوم، تظل مائدة العشاء تُعد بحب كل مساء. يجلس الجميع حول المائدة، ويُشارك السيد إعداد الأرز بينما تُعد السيدة المكونات المتجددة، وأحيانًا تجلب لنا من أطباق المقهى. على المائدة تتجلى الأحاديث العفوية والعميقة، فتكون فرصتنا للنقاش حول أفكارنا عن الحياة ومشاركة خلفياتنا الثقافية.

الخاتمة

لم تكن تجربة تعلم الخبز مجرد تعلم مهارة جديدة، بل كانت نافذة لفهم أسلوب الحياة الطيبة وكيف للإنسان مسؤوليته في اختياراته. قد يكون من الصعب أحيانًا التخلي عن حياة اختارها الجميع أو فرضها المجتمع، ولكن يمكننا أن نعيش حياة متناغمة ومتصلة بالأرض والطبيعة إذا اخترنا ذلك.

مع انتهاء هذه التجربة، أنتقل إلى مرحلة جديدة، حيث سأقضي ستة أيام في مزرعة تفاح لاستكشاف حياة أخرى ترتبط بالأرض والتقاليد.

فائدة نامان

«ليس هناك عمل مميز !»

يقال إن لكل صناعة تحدياتها الفريدة، وأن التصنيع وتقديم الخدمات يختلفان في طريقة عملهما، وأن الشركات داخل نفس الصناعة تواجه مشكلات متباينة. لكن هذا النوع من التفكير هو ما يؤدي في النهاية إلى فشل المشروع التجاري.

بالطبع، ستكون هناك سمات مميزة لكل نوع من العمل، لكن هذه السمات تبقى سطحية؛ لأن المنطق الأساسي للعمل لا يتغير.

مهما كان نوع العمل، فإن هناك أمورًا ثابتة تجمع بين جميع الأعمال التجارية:

  1. نظرة العاملين إلى عملهم.

  2. المجهود المبذول في كل منتج أو خدمة.

  3. الكفاءة والوظيفية في العمل.

  4. نظرة الرضا على وجوه الزبائن.

هذه هي الأسس التي تضمن نجاح أي عمل تجاري.

« هيروشي ميكيتاني - طريق إدارة الأعمال»

تضع مودة رداء الخبازة، وتردي قفاز المزارع لتعمل في محاصيل التفاح...
تضع مودة رداء الخبازة، وتردي قفاز المزارع لتعمل في محاصيل التفاح...

السفرمعسكرالترحالاليابان
نشرة سنين نامان
نشرة سنين نامان

نروي عبرها القصص التي تُحيط بكل مشروع في استوديو نامان، نشارك اللحظات التي ألهمتنا، والدروس التي تعلمناها. كل مشروع يحمل تجربة فريدة، نتعلم منها وننقلها عبر هذه النشرة لتكون مصدراً للإلهام والتفكر.